فصل: الفصل السادس: طريقة المتصوفة في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة **


وأظنك أيها القارئ قد فهمت الآن العقيدة التي دعا إليها ابن عربي والإله الذي تخيله، وهو ما زعم أنه الروح الذي يسري في جميع الموجودات، بل الموجودات هي صورته الظاهرة‏.‏‏.‏ وهي عينه ‏(‏تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا‏)‏ ولم يكتف أن ينسب هذا إلى نفسه، ومن شايعه، بل زعم أن هذه هي عقيدة موسى وعيسى ومحمد، بل وجميع الأنبياء والمرسلين الذين عرفوا الأمر على حقيقته، وأن الرسول قد أعطاه هذا الكتاب، ليخرج به على الناس ليبلغهم الدين الحق، والرسالة الصحيحة، وأنه نقل فقط، وما تصرف في شيء، بل سار في حدود ما أمر به، ولم يزد حرفًا واحدًا‏.‏

4ـ ولم تستطع عقبة أن تقف أمام ابن عربي لترده إلى صوابه، وليعلم العقيدة الحقة، ولكنه مضى في شوط التلبيس والتخطيط إلى منتهاه‏.‏

وكانت من هذه العقبات العقيدة في النار‏:‏ جهنم التي أعدها الله للكافرين، والتي يصطرخون بها‏:‏ ‏{‏ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏107‏]‏‏.‏ والتي يتمنون فيها الموت، بل يكون هو منتهى آمالهم وغاية مطلبهم ‏{‏ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 77‏]‏‏.‏ فيرد عليهم مالك قائلًا ‏{‏إنكم ماكثون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏77‏]‏، جهنم التي يدعو أهلها على أنفسهم بالويل والثبور، ويرد الله عليهم قائلًا‏:‏ ‏{‏لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏14‏]‏ لأنه لا استجابة لهم، ولا خروج منها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وآيات كثيرة في وصف جهنم، وبشاعتها وحرقتها، وعذاب أهلها بها، كل هذه الآيات لم تمنع ابن عربي الذي حكم لقوم نوح بالمعرفة والإيمان، ولقوم فرعون ولكفار مكة كذلك، بل لكل كافر على الأرض أنه ما عبد إلا الله في صورة من الصور، أقول‏:‏ كذلك هذه الآيات لم تمنع ابن عربي أن يحكم لأهل النار بالنعيم المقيم، والسعادة والهناء‏.‏ وأين ذلك‏؟‏‏.‏‏.‏ في النار نفسها، هذه النار التي وصفها الله بما وصف، ووصف أهلها بما وصف‏.‏‏.‏ هذه النار دار سعادة عند ابن عربي، لا دار شقاوة وعذاب، بل دار عذوبة وهناء‏.‏ وهاك نص عبارته في ذلك‏:‏

‏"‏وإن دخلوا دار الشقاء فإنـهم ** على لذة فيها نعيم مبايـــن

نعيم جنان الخلد، فالأمر واحـد** وبينهما عند التجلي تبايـــن

يسمى عذابًا من عذوبة طعمـه** وذاك له كالقشر والقشر صاين

‏(‏الفصوص ص94‏)‏

فانظر كيف جعل نعيم النار كنعيم الجنة، لأن الأمر واحد في زعمه، وأن العذاب من العذوبة، وأن النار قشرة تخفي وراءها النعيم المقيم لأهل النار‏.‏

ويقول أيضًا‏:‏ ‏"‏فمن عباد الله من تدركه تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه إنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه، فارتفع عنهم، فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم‏.‏‏.‏ أو أن يكون النعيم مستقلًا زائدًا كنعيم أهل الجنان والله أعلم‏"‏‏.‏ انتهى ‏(‏الفصوص ص114‏)‏‏.‏

ومع أنه تناقض هنا مع ما قرره في أبياته السابقة، وقال‏:‏ يكون النعيم لأهل النار بفقد آلام سابقة، أو بحصول لذة ومتاع بالنار كنعيم الجنة و ‏(‏أو‏)‏ تقتضي الشك، ولذلك قال‏:‏ والله أعلم، مع العلم أنه قال في مطلع الكتاب وفي ثناياه أنه ينقل عن الله بلا زيادة ولا نقصان‏.‏‏.‏ فانظر هذا التهافت والتخبط والعمى‏.‏‏.‏ نعوذ بالله من الخذلان‏.‏

أقول مع هذا يعود ويقرر دون شك أن النار ستكون بردًا وسلامًا على أهلها، كما كانت نار إبراهيم بردًا وسلامًا عليه، يقول في ‏(‏الفصوص ص169‏)‏‏:‏ ‏"‏وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار‏.‏‏.‏ إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون بردًا وسلامًا على من فيها، وهذا نعيمهم، فينعم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار، فإنه ـ عليه السلام ـ تعذب برؤيتها‏.‏ وبما تعود في علمه، وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان‏"‏ ا‏.‏هـ‏.‏

5ـ أظنك أيها القارئ الكريم قد عرفت الآن فرعيات هذه العقيدة الصوفية الباطلة، ولمزيد من هذه المعرفة والتوضيح سأنقل إليك بيانًا واضحًا من كلام ابن عربي أو الشيخ ‏"‏الأكفر أو الأكبر‏"‏ كما يسمونه، مما تتصور به هذه العقيدة، ويكفي في إبطالها أن تتصورها، فهذه العقيدة لا تحتاج إلى رد يبطلها، وإنما تصورها تصورًا صحيحًا يكفي لبطلانها‏.‏ فما عرف البشر في تاريخهم الطويل كفرًا وإلحادًا أعظم من هذا الكفر؛ فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ استعظم مقالة من قالوا‏:‏ ‏{‏اتخذ الله ولدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ سبحانه وتعالى عن ذلك قائلًا‏:‏ ‏{‏وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏4ـ5‏]‏‏.‏

وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدًا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏88ـ95‏]‏‏.‏

فإذا كانت السماوات تكاد تنفطر من تلك المقالة الخبيثة، بل وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا، فكيف بمن ينسب كل شيء خبيث في الأرض إلى ذات الله، بل جعله عين الله‏؟‏‏!‏‏.‏‏.‏ فالذين نسبوا لله ولدًا نسبوا شيئًا صالحًا كنبي أو ملك، أما الذي جعل الله عين كل شيء‏.‏‏.‏

أقول‏:‏ إن تصور هذه العقيدة يكفي لبطلانها عند من له أدنى حس أو شعور، ولا أقول عقل ولب، فالقضية لا تحتاج معقولية لردها، وإنما تحتاج قليلًا من الإحساس والشعور، والحياء والخجل، وقد لبّس هؤلاء الشياطين على الناس زاعمين أن كلامهم لا يفقهه إلا من ذاق ذوقهم، ووجد وجدهم، وعرف معرفتهم، هأنا ذا أعطيك مفاتيح هذه المعارف الباطلة، والذوق الخبيث، والوجد اللعين، لتعرف الأمر عندهم على ما هو عليه، ولذلك فسأسرد لك طائفة أخرى من الشرح التفصيلي لهذه العقيدة، وكل هذا الشرح من كلام القوم حتى لا يبقى عندك في الحق لبس، ولتعلم أيضًا أن من زعم منهم أن هذا الكلام المنقول عن أساتذة الضلال إنما هو شطح فقط، وغلبة حال فزعمه باطل، لأن الأمر ليس شطحًا، وإنما هو عقيدة فلسفية مقررة مشروحة في عشرات الكتب، وأن كل آي القرآن قد حرفوها واستدلوا بها، ليغيروا عقيدة المسلمين الحقة في إلههم سبحانه وتعالى، الذي يتصف بصفات الكمال، والذي لا يشبه أحدًا من خلقه، بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولمن يكن له كفوًا أحد‏.‏

يقول ابن عربي شارحًا عقيدته مستدلًا عليها بالحديث الموضوع‏:‏ ‏"‏من عرف نفسه عرف ربه‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏قال ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏"‏من عرف نفسه عرف ربه‏"‏، وهو أعلم الخلق بالله، فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الإله من غير نظر في العالم، وهذا غلط، نعم تعرف ذات قديمة أزلية، لا تعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو الدليل عليه، ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته، وأن العالم ليس سوى تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها، وهذا بعد العلم به منا أنه إله لنا، ثم يأتي الكشف الآخر، فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضًا‏"‏ ا‏.‏هـ ‏(‏الفصوص ص81،82‏)‏‏.‏

فهنا قد أنكر ابن عربي على أبي حامد وبعض المتصوفة الآخرين الذين قالوا‏:‏ إن الحق لا يشترط لمعرفته النظر في الكون، بل قد يأتي ذلك عن طريق الكشف رأسًا دون استدلال بالكون المشاهد على الخالق سبحانه وتعالى‏.‏ وقال ابن عربي‏:‏ ‏"‏إن هذا لا يكفي إلا لمعرفة ذات قديمة أزلية، ولكن لا بد من النظر في الكون لتعلم أن الذي تشاهده هو الحق، وهو الدليل على الحق، أي أن الصور المشاهدة في الكون هي الله، وهي الدليل عليه، ثم يأتي بعد ذلك الكشف الآخر الذي يتحقق الإنسان فيه من نفسه أيضًا بأنه نفسه صورة من صور الحق، فعند ذلك يعرف نفسه، فيعرف ربه، يعرف نفسه أنه الله، فيعرف الله أنه كل موجود‏.‏‏.‏‏"‏

ولم يكتف ابن عربي بأن يتبع أسلوب الثعالب في اللف والدوران والمراوغة، بل اتبع أيضًا أسلوب الاستفزاز لكل مؤمن، والنيل من عقيدة الإسلام بكل احتقار واستهزاء، ويدلك على ذلك أن اسم الله ـ عز وجل ـ ‏(‏العلي‏)‏ يفهم منه سلف الأمة وعلماؤها الأفاضل أن المقصود به العلو الحقيقي المستلزم مباينته تعالى لخلقه، والعلو المجازي الذي هو علو المكانة، فالله علي بذاته سبحانه وتعالى لأنه فوق عرشه، والعرش سقف المخلوقات كما مدح نفسه بذلك في سبع آيات من كتابه الكريم، وكما قال مالك بن أنس‏:‏

‏"‏الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة‏"‏، وأما المكانة فمنزلة الله ـ عز وجل ـ فوق كل منزلة، فهو العلي العظيم سبحانه وتعالى، والخالق القوي القدير، وما سواه معبود مربوب مقهور، فحتى العلماء الذين نفوا عن الله العلو الحقيقي، وأثبتوا علو المكانة فقط ما نفوا عن الله هذه الصفة، ولكن انظر إلى ابن عربي كيف فهم هذه الصفة، وطبقها حسب عقيدته الباطلة‏:‏

قال ‏(‏الفصوص ص76ـ77‏)‏‏:‏ ‏"‏ومن أسمائه الحسنى العلي، على من‏.‏‏.‏ وما ثم إلا هو‏؟‏ فهو العلي لذاته‏.‏ أو عن ماذا‏.‏ وما هو إلا هو‏؟‏ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى المحدثات هي العلّية لذاتها، وليست إلا هو، فهو العلي، لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات، والعين واحدة من المجموع في المجموع، فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية، وليس إلا العين الذي هو الذات فهو العلي لنفسه لا بالإضافة، فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة، لذلك نقول في‏:‏ هو لا هو، أنت لا أنت، قال الخراز ‏(‏ـ رحمه الله ـ تعالى‏)‏ وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات‏"‏‏.‏

فانظر استهزاءه باسم الله ‏(‏العلي‏)‏ حيث يقول‏:‏ على من‏؟‏ وعن ماذا‏؟‏ وليس في الوجود غيره، فهو المحدثات، بل هو المسمى أبو سعيد الخراز، وأبو سعيد هذا أحد أئمة القوم في القرن الثالث الهجري‏.‏‏.‏

وانظر كيف جعلوا العلو إنما هو لبعض المحدثات على بعض، وما دام أن جميع المحدثات هو الحق، وهو الله عندهم، فلا يوصف الله بالعلو إضافة أبدًا، لأنه ليس شيء غيره في الكون، ولكن يوصف ـ عندهم ـ بالعلو لذاته فقط‏.‏

ولا يتورع ابن عربي مع ذلك أن ينسب ما في الوجود من شر وقبائح وظلم وسفك دم إلى الله، بل يجعل كل ذلك هو الله فيقول‏:‏ ‏"‏فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، حيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفًا وعقلًا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة‏"‏ ‏(‏الفصوص ص79‏)‏‏.‏

فانظر كيف جعل مسمى الله يستغرق جميع الأمور الوجودية، سواء كانت ممدوحة في العرف والعقل والشرع، أم كانت مذمومة في العرف والعقل والشرع، وليس هناك كفر على الأرض أكبر من هذا الكفر، بل ليس هناك وقاحة وسوء أدب مع الله أعظم من هذا، فاللهم رحمتك بنا ونقمتك بأولئك، أبعدهم الله‏.‏‏.‏

ولقد كرر هذا المعنى كثيرًا في كتابه فقال أيضًا‏:‏ ‏"‏ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم‏؟‏‏"‏ ‏(‏الفصوص ص80‏)‏‏.‏

ولم يكتف بهذا القول المجمل، بل فصل ذلك أيضًا حيث جعل الكبش الذي أنزله الله فداءً لإسماعيل من الذبح هو الله ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًاـ ‏.‏

قال ابن عربي‏:‏

فيا ليت شعري كيف ناب بذاته** شخيص كبيش عن خليفة رحمان

‏(‏الفصوص ص84‏)‏‏.‏

فوقتًا يكون العبد ربًا بلا شــك** ووقتًا يكون العبد عبدًا بلا إفـــك

فإن كان عبدًا كان بالحق واسعًا** وإن كان ربًا كان في عيشة ضنــك

‏(‏الفصوص ص90‏)‏

بل لم يكتف بهذا أيضًا حتى زعم أن الحق لا يشهد أتم شهود، ولا يعرف حق المعرفة إلا في المرأة‏.‏‏.‏ حال اللذة والشهوة‏.‏‏.‏ وهاك نصوص عباراته القبيحة في ذلك، ووالله لولا وجوب بيان هذا الباطل وتحذير الأمة منه ما كان لي أن أخط قلمًا بهذا الإثم والفجور، ولكن ما حيلتنا وبين أظهرنا من يدافع عن هذا الباطل، ويعتقد الولاية لقائليه، بل ويكفّر من تعرض لهذا الإثم والفجور، ويرميهم بالكفر والزندقة، وهؤلاء الضالون قد ملؤوا أكبر المراكز الدينية في بلادنا، واتبعهم عوام الناس دون وعي منهم بما خلف هذه العمائم الفارغة، والشهادات الزائفة من الإثم والفجور والباطل‏؟‏‏!‏

هذا ابن عربي سيد الصوفية وشيخها من لدنه إلى هذا يفسر حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏ فيقول‏:‏

‏"‏اشتق الله من الإنسان شخصًا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه، فحببت إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم، وعلو نشأتهم الطبيعية، فمن هناك وقعت المناسبة والصورة أعظم مناسبة، وأجلها وأكملها‏"‏ ‏(‏الفصوص ص216‏)‏‏.‏

وقبل أن نستطرد في النقل عن ابن عربي أشرح لك الإفك الذي أفكه هنا، فقد زعم أن الإنسان أحب المرأة، لأنها جزء منه ولا مانع في ذلك، وقد يكون هذا قولًا صحيحًا، ثم قاس على هذا أن الله أحب الإنسان لأنه خلقه على صورته، يعني أن ابن آدم ظهر في الوجود على صورة الرحمن، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فكان ابن عربي مشبهًا لله بخلقه أيضًا، وهذا القول منه يخالف عقيدته السابقة في وحدة الوجود، وأن جميع الموجودات هي صورة للحق، ولا تنفرد صورة واحدة بأن تكون مثلًا للخالق بل جميع الصور ذاتها ذات الخالق، وهذا يدلك على تناقضه وخبثه وثعلبيته، ويجعل السبب الذي من أجله أحب الله الإنسان أن الصورة التي خلق عليها هي أعظم مناسبة وأقرأ عبارته السابقة مرة أخرى حتى تفهم ما يقول‏.‏ ثم يستطرد ابن عربي شارحًا ومفلسفًا عقيدته قائلًا‏:‏

‏"‏فإنها زوج ‏(‏أي صورة الإنسان آدم‏)‏ أي شفعت وجود الحق كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل، فصيرته زوجًا، فظهرت الثلاثة‏:‏ حق ورجل وامرأة‏!‏‏!‏‏!‏ فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه، فحبب إليه ربه النساء، كما أحب الله من هو على صورته، فما وقع الحب إلا لمن تكوّن عنه، وقد كان حبه لمن تكوّن منه، وهو الحق، فلهذا قال ‏(‏حبب‏)‏ ولم يقل ‏(‏أحببت‏)‏ من نفسه، لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقًا إلهيا‏"‏‏)‏ ا‏.‏هـ‏.‏

فانظر كيف جعل حب الرجل للمرأة من التخلق بأخلاق الله في زعمه، لأن الله قد أحب محمدًا الذي خلقه على صورته ‏(‏تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا‏)‏، ولأن محمدًا هو أول موجود حسب عقيدة ابن عربي‏.‏

ثم يستطرد ابن عربي في عباراته الوقحة الكافرة القبيحة قائلًا‏:‏

‏"‏ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصل التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة، فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أن يلتذ بغيره‏!‏‏!‏ فطهره بالغسل، ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك، فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهد في نفسه ـ من حيث ظهور المرأة عنه ـ شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا وساطة، فشهوده للحق في المرأة أم وأكمل‏.‏‏.‏ ولأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل‏.‏‏.‏ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة، فلهذا أحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء، لكمال شهود الحق فيهن‏.‏‏.‏ إذ لا يشهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا‏.‏‏.‏‏"‏ ‏(‏الفصوص ص217‏)‏‏.‏

وأظن ليس بعد هذا الكلام كلام، وليس بعد هذا البيان بيان، ولا يملك المسلم الذي عصمه الله من هذا التردي الخلقي والعقلي إلا أن يقول ‏(‏يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك‏)‏‏.‏

ويستطرد ابن عربي مقررًا هذا المعنى شارحًا له بمثل هذه العبارات‏:‏ ‏"‏فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

وقائلًا أيضًا‏:‏ ‏"‏فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي‏"‏‏.‏ وقائلًا بعد هذا أيضًا‏:‏

صح عند الناس أني عاشق ** غير أن لم يعرفوا عشقي لمن

‏(‏الفصوص ص218‏)‏

 الفصل السادس‏:‏ طريقة المتصوفة في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية

مع بداية القرن الثالث الهجري ابتدأ المتصوفة بالتصريح بشيء من علومهم الباطنة فأنكر بعضهم على بعض، فهذا الجنيد يقول للشبلي‏:‏ ‏"‏نحن حبرنا هذا العلم تحبيرًا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ‏"‏ فرد عليه الشبلي بقوله‏:‏ ‏"‏أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري‏"‏ ‏(‏التعرف على مذهب التصوف ص145‏)‏‏.‏

وقول الشبلي هذا هو بدايات القول بوحدة الوجود‏.‏

ثم ابتدأت جماعة من المتصوفة تصرح بشيء من هذا العلم الباطن الذي لم يكن في حقيقته إلا القول بالحلول، الفناء في ذات الله الذي تقول به العقيدة الهندية البرهمية، والقول بوحدة الوجود، وكان هذا في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع‏.‏ وهذه طائفة من هذه الأقوال التي ظهرت على أفواه القوم، وكانت تخفي تحتها العقيدة الباطنة التي زعموا أنها في منتهى الكمال والرقي في سلم التعبد الإسلامي‏.‏

أـ ذكر أبو نصر السراج الطوسي صاحب كتاب اللمع في التصوف، وهو الكتاب الذي نشره الدكتور عبدالحليم محمود وطه عبدالباقي سرور أن أبا حمزة الصوفي دخل دار الحارث المحاسبي فثغت ‏(‏ثغاء الشاه‏:‏ صوتها‏)‏ شاة الحارث، فشهق أبو حمزة شهقة وقال‏:‏ ‏"‏لبيك يا سيدي‏"‏‏!‏‏!‏ فأنكر عليه الحارث المحاسبي، فقال له أبو حمزة‏:‏ إن إنكارك علي يشبه أحوال المريدين المبتدئين‏"‏ ‏(‏اللمع في التصوف ص495‏)‏ أي الذين لم يصلوا بعد إلى التحقق من وحدة الوجود‏.‏

ب ـ وهذا أبو الحسين النوري يسمع كلبًا يعوي فيقول‏:‏ ‏"‏لبيك وسعديك‏"‏ ‏(‏اللمع ص492‏)‏‏.‏

ج ـ وهذا الشبلي أيضًا يقول لأحد زواره عند خروجه‏:‏ ‏"‏أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي‏"‏‏.‏

د ـ وكان من أجرأ هؤلاء الذين صرحوا بهذا العلم الباطن الحلاج وقبل أن أستشهد بشيء من أقواله أحب أن أقدم هذه المقدمة عنه‏:‏

نشأ الحلاج في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو من أهل بيضاء فارس، ونشأ بواسط بالعراق، وصحب الجنيد الذي يعتبر سيد الطائفة الصوفية، وأبا الحسين النوري والفوطي، وقد قتل ببغداد، وصلب يوم الثلاثاء السادس من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مئة وعموم المتصوفة راضون عنه، وإن كان قد رده بعضهم بعد قتله خوفًا على أنفسهم، ولكن ذكر الأقدمون منهم أقواله في كتبهم دون ذكر اسمه، بأن يقولوا مثلًا‏:‏ قال أحد الكبراء ‏(‏وهذا صنيع أبي بكر محمد الكلاباذي الذي ألف الموسوعة الصوفية الثانية بعد اللمع، وهو كتابه ‏(‏التعرف على مذهب أهل التصوف‏)‏ وكذلك صنيع السراج الطوسي صاحب الموسوعة الصوفية الأولى ‏(‏اللمع‏)‏ وقد استشهد بكلام الحلاج في أكثر من خمسين موضعًا من كتابه مصدرًا القول بقوله‏:‏ قال بعضهم، أو قال القائل‏)‏ ‏(‏انظر مقدمة كتاب الحلاج ص11‏)‏ ولم يستطيعوا التصريح باسمه، وهذا صنيع أكبر رجلين كتبا في التصوف في القرن الرابع، وهما أبو بكر محمد الكلاباذي المتوفي سنة 380هـ وأبو نصر السراج الطوسي المتوفي سنة 378هـوقد بالغت طائفة منهم بالثناء عليه حتى قال عنه محمد بن خفيف‏:‏ ‏"‏الحسين بن منصور عالم رباني‏"‏ ‏(‏طبقات الصوفية ص308‏)‏‏.‏

وفي القرن الخامس وما يليه ابتدأ المتصوفة يصرحون باسمه، ويذكرون مقالاته، ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبو حامد الغزالي، وابن عربي، وعبدالغني النابلسي وكل المتصوفة منذ القرن الخامس‏.‏ وأما في العصر الحديث فقد كتب فيه طه عبدالباقي سرور كتابًا بعنوان‏:‏ ‏(‏الحلاج شهيد التصوف الإسلامي‏)‏ وقد جعله في هذا الكتاب ثائرًا على الفساد، ومصلحًا إجتماعيًا، وداعية إسلاميًا إلى الله سبحانه وتعالى‏.‏

وبعد هذه المقدمة أعود إلى سياق البحث، وهو أن أجرأ الناس في إظهار العقيدة الباطنية للفكر الصوفي كان الحسين بن منصور الحلاج، وهذه الجرأة هي التي أدت بعد ذلك إلى القتل والصلب، ولقد كان هناك من المتصوفة من هم على عقيدته ولكنهم كتموا‏.‏ يقول الشبلي‏:‏

‏"‏كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهر وكتمت‏"‏ ‏(‏الحلاج لطه عبدالباقي سرور‏)‏، ومن أبرز ما صرح به الحلاج عن المعتقد الباطن للتصوف ما أنقله بنصه عن كتاب الطواسين للحلاج ‏(‏نشر لويس ماسنيون‏)‏ قال الحلاج ‏(‏طاسين الأزل والالتباس‏)‏‏.‏

‏"‏ما صحت الدعاوي لأحد إلا إبليس وأحمد، غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد كشف له عن عين العين، قيل لإبليس‏:‏ اسجد، ولأحمد‏:‏ انظر‏.‏ هذا ما سجد وأحمد ما نظر، ما التفت يمينًا ولا شمالًا، ‏{‏ما زاغ البصر وما طغى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏‏.‏ أما إبليس فإنه دعا لكنها ما رجع عن حوله، وأحمد ادعى ورجع عن حوله بقوله‏:‏ ‏(‏بك أحول وبك أصول‏)‏ وبقوله‏:‏ ‏(‏يا مقلب القلوب‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا أحصي ثناء عليك‏)‏‏.‏

وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغير عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد، ولُعن حين وصل إلى التفريد، وطُلب حين طلب المزيد‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏اسجد‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏لا غير‏"‏ قال له‏:‏ ‏(‏وإن عليك لعنتي‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏لا غير‏"‏، مالي إلى غيرك سبيل، وإني محب ذليل، قال له‏:‏ ‏(‏استكبرت‏)‏ قال‏:‏ لو كان لي معك لحظة لكان يليق بي التكبر والتجبر، وأنا الذي عرفتك في الأزل ‏(‏أنا خير منه‏)‏ لأن لي قدمة في الخدمة، وليس في الكونين أعرف مني بك، ولي فيك إرادة، إرادتك في سابقة، إن سجدت لغيرك، فإن لم أسجد لا بد من الرجوع إلى الأصل، لأنك خلقتني من النار، والنار ترجع إلى النار، ولك التقدير والاختيار، تيقنت أن القرب والبعد واحد‏!‏‏!‏‏"‏ ثم يستطرد الحلاج قائلًا‏:‏

‏"‏التقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال له‏:‏ يا إبليس ما منعك عن السجود‏؟‏ قال‏:‏ منعني الدعوة بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة‏.‏‏.‏ انظر إلى الجبل‏.‏‏.‏ فنظرت، ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي، فقال‏:‏ تركت الأمر‏؟‏ قال‏:‏ كان ذلك ابتلاء لا أمرًا، فقال له‏:‏ لا جرم قد غير صورتك‏.‏ قال‏:‏ يا موسى ذا وذا تلبيس، والحال لا يعول عليه فإنه يحول، لكن المعرفة صحيحة كما كانت وما تغيرت وإن الشخص قد تغير‏.‏

فقال موسى‏:‏ الآن تذكره‏؟‏ فقال‏:‏ يا موسى الفكرة تذكر، أنا مذكور وهو مذكور، ذكره ذكري، وذكري ذكره، وهل يكون الذاكرون إلا معًا‏.‏

خدمتي الآن أصفى، ووقتي أخلى، وذكري أجلى، لأني كنت أخدمه في القدم لحظي، والآن أخدمه لحظِّه‏"‏‏.‏

ثم استطرد بعد ذلك قائلًا‏:‏ ‏"‏وفي أقوال عزازيل ‏(‏زعم المتصوفة أن إبليس كان يسمى عزازيل قبل أن يطرد من رحمة الله‏)‏ أحدها أنه كان في السماء داعيًا وفي الأرض داعيًا‏:‏ في السماء دعي الملائكة بربهم المحاسن، وفي الأرض دعا الإنس بربهم القبائح، لأن الأشياء تعرف بأضدادها‏"‏‏.‏

وفي هذه الصياغة الطويلة لمعصية إبليس تستطيع الآن أن تلم بملامح العقيدة الصوفية الباطنية، ونستطيع أن نلخصها على النحو التالي‏:‏

1ـ أعبد الناس في كلام الحلاج هو إبليس والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانظر كيف ينظمها عدو الله في سلك واحد، ثم يستدل على ذلك بأن إبليس أمر بالسجود فلم يسجد، والذي منعه من ذلك هو مشيئة الرب فيه وجبر الرب له‏.‏ وتحققه أن لا موجود إلا هو، وأن القرب والبعد من الرب واحد، لأنه ليس على الحقيقة إلا الله، وأن إبليس قد كان داعيًا للملائكة إلى المحاسن، بإقامة الله له، وفي الأرض إنما هو داع إلى القبائح، وما هو في الحقيقة إلى قائم بمراد الرب ومشيئته‏.‏

وأما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ فقد أصبح أعبد الناس عند الحلاج ـ وهذا من التلبيس ـ لأن الله أمره في السماء أن ينظر إليه، فما نظر، واستدل على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما زاغ البصر وما طغى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏‏.‏ والآية في أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وأن البصر ما زاغ ولا طغى، وهو ينظر إلى جبريل ‏(‏فانظر كيف حول الحلاج الآية عن معناها، وأن المقصود بها هو‏:‏ ما زاغ البصر أي ما نظر إلى الله، لأنه ليست هناك ذات مستقلة لله ـ تبارك وتعالى ـ في زعم الصوفية، بل ذاته هي ذات موجوداته‏.‏ انظر هذا في كلام النابلسي الآتي‏)‏‏.‏

وأما الدليل الآخر الذي ساقه الحلاج، فهو قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقول‏)‏ ‏(‏هو جزء محرف من حديث رواه أبو داود في ‏(‏سننه 2632‏)‏ عن أنس بن مالك، ولفظه‏:‏ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا غزا قال‏:‏ ‏(‏اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل‏)‏ وصحح إسناده أستاذنا الألباني في ‏(‏تخريج الكلم الطيب ص75‏)‏ كما رواه ببعض اختصار الترمذي ‏(‏2/278‏)‏ وحسنه، وأحمد ‏(‏6/16‏)‏‏)‏ والمعنى الذي هو مراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يستطيع أحد أن يفعل خيرًا، أو يوفق إلى خير إلا بحول الله وقوته ولكن الحلاج قلب هذا المعنى إلى عقيدته الخبيثة في الرب جل وعلا، وجعل معناها أن الرسول قال ذلك لأنه كان متحققًا أنه هو هو، أي أنه هو الله‏!‏‏!‏‏.‏

وأما موسى في نظر الحلاج فلم يكن على معرفة بحقيقة الرب، ولذلك قال له‏:‏ ‏{‏رب أرني أنظر إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏

ولقد كان من الجرأة بمكان أن يظهر الحلاج دعوته وعقيدته على هذا النحو من الصراحة والوضوح، ولقد كان يعاصره عدد كبير من المتصوفة في العراق وإيران والشام، ولكنهم قنعوا بالإشارات والرموز إلى عقيدتهم، ولم يقنع هو إلا بالتصريح، وقد سمى هو هذا المقام الذي وصل إليه مقام الفتوة، وفي ذلك يقول‏:‏

‏"‏تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة ‏(‏الفتوة التي عناها الحلاج هنا هي الجرأة في إظهار معتقده، وأستاذه في ذلك كما يقول إبليس وفرعون‏!‏‏!‏‏)‏، فقال إبليس‏:‏ إن سجدت سقط عني اسم الفتوة، وقال فرعون‏:‏ إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة، وقلت أنا أيضًا‏:‏ إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من بساط الفتوة‏!‏‏!‏ وقال إبليس‏:‏أنا خير منه، حين لم ير غيره غيرًا، وقال فرعون ‏:‏‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل‏!‏‏!‏ وقلت أنا‏:‏ إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبدًا بالحق حقًا‏!‏‏!‏ فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة أبدًا، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي، ما رجعت عن دعواي‏"‏ ‏(‏الطواسين ص52‏)‏‏.‏

وهذا الذي وصل الحلاج إليه قد كان عقيدة لكثير من معاصريه، ولكنهم لم يستطيعوا التصريح به بنفس الوضوح والصراحة التي صرح بها الحلاج، يقول الشبلي‏:‏ ‏"‏كنت والحسين بن منصور شيئًا واحدًا إلا أنه أظهر وكتمت‏"‏ وقد مرّ بك هذا القول‏.‏

ولقد حاول الحلاج أن ينقل عموم المتصوفة إلى موقفه، ولذلك لم يفتأ يحركهم نحو هذه الغاية، ففي الرسالة القشيرية أنه لقي إبراهيم الخواص فقال له الحلاج‏:‏ ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفاوز‏؟‏ قال‏:‏ بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه‏.‏ فقال الحلاج‏:‏ أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد‏!‏‏!‏

ويدخل الحلاج مسجد بغداد، ويرى الجنيد يتكلم على المنبر والجنيد سيد الطائفة في وقته فيقول له‏:‏ يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك، وإلا فانزل، فنزل الجنيد ولم يتكلم على الناس شهرًا ‏(‏أخبار الحلاج طبع ماسنيون‏)‏‏.‏

وهذا القول من الحلاج للجنيد إنكار شديد عليه، وأمر له بأن يظهر ما يعتقده، وبأن يتحقق ظاهرًا فيما تحقق فيه باطنًا‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏"‏فإن كنت في العلم فالزم مكانك‏"‏ أي إن كنت قد وصلت إلى حقيقة معتقد التصوف فالزم هذا المكان، وأظهر ما تعتقد‏.‏ والحلاج هنا لم ينكر على الجنيد معصية شرعية ظاهرة، ولكنه أنكر عليه إظهاره من علوم الشريعة للعامة ما يخالف ما وصل إليه من عقيدة التصوف، ولذلك احتجب عن الناس شهرًا لا يكلمهم، ولم يستطع الجنيد أن يظهر ما أظهر الحلاج، لأنه كان يعلم نهاية الإفصاح عن حقيقة المعتقد‏.‏

ولذلك روى أبو عبدالرحمن السلمي في طبقاته في ترجمة الشبلي أن الجنيد قال للشبلي ‏"‏لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت‏"‏ فقال الشبلي‏:‏ ‏"‏يا أبا القاسم لو ردّ الله أمرك إليك لاسترحت‏"‏ فقال الجنيد‏:‏ ‏"‏سيوف الشبلي تقطر دمًا‏!‏‏!‏‏"‏ ‏(‏الطبقات ص343‏)‏‏.‏

والمعنى الذي عناه الجنيد في كلامه للشبلي أنه إذا استسلم لأمر الله، واسترسل معه كما يقولون‏:‏ التصوف الاسترسال مع الله ‏(‏يعني المتصوفة بهذا القول أن لا يكون لك اختيار وفعل، بل تترك مشيئة الرب تسيرك، وهذا معناه هدم الإرادة البشرية وترك الوسائل كلها‏)‏ أي ترك الاختيار معه لاسترحت وهدأت‏.‏

فرد الشبلي عليه بعكس العبارة وبالمعنى نفسه‏!‏‏!‏ ومعنى عبارة الشبلي أن الله قد جبر العبد وأقامه بما هو فيه، ولم يردّ أمره إليه، بل جعل أمر العبد إليه هو، ولو رد أمر العبد إلى نفسه لاستراح، واختار ما يحلو له‏.‏ وكانت عبارة الشبلي للدلالة على المعنى أصرح من عبارة الجنيد، ولذلك قال الجنيد ردًا على ذلك‏:‏ سيوف الشبلي تقطر دمًا‏.‏ أي أنه بهذا التصريح عن معتقده سيعرض نفسه للقتل‏!‏‏!‏

ومما يدل على ذلك أن الحلاج عندما أحضر للقتل والصلب جمعت المتصوفة، وأرغموا على النيل من الحلاج وسبه، وكان ممن أحضروا لذلك الشبلي، وضعوا المنديل في رقبته، وسحبوه إلى الحسين بن منصور الحلاج ليلعنه فتأبى من ذلك، فأمره الجند بأن يذهب بنفسه أو يرسل من يلعن الحلاج، فأرسل امرأة متصوفة، وأمرها أن تقول للحلاج‏:‏ إن الله قد ائتمنك على سر من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد‏!‏‏!‏ ‏(‏ماسنيون‏.‏ وانظر نشرات الصوفية‏)‏‏.‏

وهذه الروايات كلها تدل على أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد قد تفاوتوا في إظهاره وإعلانه‏!‏‏!‏